السبت، 19 أبريل 2008

شبهة سجود الشمس تحت العرش

شبهة سجود الشمس تحت العرش

سجود الشمس تحت العرش: 
روى البخاري رحمه الله في بدء الخلق عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم.


الشبهة: هذا الحديث يقول إن الشمس تدور حول الأرض.
الجواب: كل العلماء الذين قالوا بدوران الأرض حول الشمس يعلمون بهذا الحديث الشريف، ولم يشكل عندهم أي شبهة تنفي ذلك.
فالمقصود ( كما تبدو للناظر )
ولكن كيف تسجد الشمس، وهل تقف لتسجد ثم تسير ؟
1. هذا الحديث من الغيب ولا يجوز قياس الغيب بذات المقاييس التي نقيس بها الأمور المحسوسة.


2. كل مخلوق من مخلوقات الله تعالى يسبح الله تعالى ويخضع له بما يتناسب مع حاله..


فمن معاني السجود في اللغة الخضوع كما ذكره ابن منظور وغيره. وعليه يُحمل ما في هذا الحديث وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج: " ألم تر ان الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء"


قال ابن كثير رحمه الله : " يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود كل شيء مما يختص به " ا.هـ.


فسجود الشمس مما يختص بها ولا يلزم ان يكون سجودها كسجود الآدميين كما أن سجودها متحقق بخضوعها لخالقها وانقيادها لأمره وهذا هو السجود العام لكل شيء خلقه الله كما في آية الحج السابقة إذ كل شيء من خلق الله تعالى يسجد له ويسبح بحمده، قال تعالى في آية النحل: " ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ".


والشمس داخلة في دواب السماء لأن معنى الدبيب السير والحركة والشمس متحركة تجري لمستقر لها كما هو معلوم بنص القرآن وكما هو ثابت بالعقل " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " (النور: 41).


وفي سورة الحشر: " هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(24) ".


وفي الإسراء: " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(44) ".


كما لا نفقه تسبيحها لا نفقه سجودها:
3. ولكن هل تكون الشمس ساجدة تحت العرش مادامت الحياة الدنيا ؟
الراجح أن الشمس لها سجدتان: سجود عام مستديم وهو سجودها المذكور في آية النحل والحج مع سائر المخلوقات وسجود خاص يتحقق عند محاذاتها لباطن العرش فتكون ساجدة تحته وهو المذكور في الحديث وفي كلا الحالتين لا يلزم من سجودها أن يشابه سجود الآدميين لمجرد الاشتراك في لفظ الفعل الدال عليه. ومن أمثلة ذلك من واقعنا أن مشي الحيوان ليس كمشي الآدمي وسباحة السمك والحوت ليست كسباحة الإنسان وهكذا مع انهم يشتركون في مسمى الفعل وهما المشي والسباحة.


4. لا تظن أن سجود الشمس كسجودنا، لذلك لما كان يلزم من سجودنا التوقف عن الحركة لبرهة من الزمن وهو الإطمئنان الذي هو ركن في الصلاة فإنه لا يلزم بالمقابل أن يتوقف جريان الشمس لتحقيق صفة السجود. لأننا رأينا دلالة عموم لفظ السجود من آيتي الحج والنحل ومن شواهد لغة العرب على ان السجود هو مطلق الخضوع للخالق سبحانه. ومن المعلوم أن السجود عبادة والله قد تعبد مختلف مخلوقاته بما يناسب هيئاتها وصفاتها وطبائعها فكان الإنحناء والنزول للآدميين وكان غير ذلك من كيفيات السجود لسائر الكائنات والمخلوقات مع اشتراكهما في عموم معنى السجود الذي هو الخضوع لله تعالى طوعا او كرها.


ومثال ذلك طواف الرجل حول الكعبة إذ لايلزمه أن يقف عند الحد الممتد من الحجر الأسود ليتحقق حساب طواف كامل إذ أنه حتى لو طاف وواصل مسيره وتجاوز الحد دون الوقوف لإستلامه فإنه يتحقق له شوط كامل ويكون قد قضى جزءا من شعيرة الطواف دون ان يقف عند الحد الذي ذكرنا، وكذلك الشمس تجري في الفلك ونراها تشرق وتغرب دائبة ومع ذلك لها سمت او منتهى يقابلها على وجه الأرض تسجد عنده لله تعالى ويكون ذلك السمت او الحد مقابلاً في تلك اللحظة لمركز باطن العرش كما أشار إلى ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.


وكذلك صلاة الرجل وهو في الطائرة...... الخ


5. من الأدلة على القوة العلمية للحديث الشريف فائدتان:
الفائدة الأولى في قوله عليه الصلاة والسلام: " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش " عند البخاري وغيره. ولم يقل عليه الصلاة والسلام أنها " تغرب تحت العرش " أو " حتى تغرب تحت العرش " وهذا فهم توهمه بعض الناس الذين أشكل عليهم هذا الحديث وهو فهم مردود لأن ألفاظ الحديث ترده. فقوله: "تذهب " دلالة على الجريان لا دلالة على مكان الغروب لأن الشمس لا تغرب في موقع حسي معين وإنما تغرب في جهة معينة وهي ما اصطلح عليه الناس باسم الغرب والغروب في اللغة التواري والذهاب كما ذكره ابن منظور وغيره يقال غرب الشيء أي توارى وذهب وتقول العرب أغرب فلان أي أبعد وذهب بعيداً عن المقصود.


أما الفائدة الثانية : فهي في قوله صلى الله عليه وسلم: " فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا


والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يستنكر الناس منها شيئا ".
وكأن في هذا دلالة ضمنية بأن هناك من الناس ممن يبلغه هذا الحديث من قد يستشكله فيتوهم أن الشمس تقف أو تتباطأ للسجود فينكر الناس ذلك ويرهبونه.
إلا أنه صلى الله عليه وسلم أشار في الحديث إلى جريان الشمس على عادتها مع انها تسجد ولكنه سجود غير سجود الآدميين ولذلك تصبح طالعة من مطلعها تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً ويتضح من كلامه صلى الله عليه وسلم مفهوم المخالفة الدال على عدم استنكار الناس رغم سجود الشمس واستئذانها وكما قدمنا فإن سجود الشمس لا يستلزم وقوفها وهو اللبس الذي أزاله صلى الله عليه وسلم بقوله: " فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا " كما أن العقل يدل على ذلك إذ أن فرق المسافة التي يقطعها الضوء القادم من الشمس إلى الأرض يبلغ حوالي ثمان دقائق وهذا يعني انه لو حدث خطب على الشمس أو فيها فإننا لا نراه إلا بعد ثمان دقائق من حصوله وعليه فلا يمنع أن تكون الشمس ساجدة في بعض هذا الوقت ولو بأجزاء من الثانية لله تعالى تحت عرشه ونحن لا نعلم عن ذلك لغفلتنا وانشغالنا بضيعات الدنيا. ولهذا يقول الله تعالى: " وكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " والإعراض صور متعددة منها الغفلة واللهو عن تدبر الآيات كونية وشرعية ولذلك فإن البعض ممن ساء فهمهم لبعض الآيات و الأحاديث إنما أوتوا من قبل أنفسهم بعدم إمعان النظر في آيات الله الكونية وبهجرهم لتدبر كتاب الله وإعراضهم عن التفقه في سنة رسول الله مع عزوفهم عن الاستزادة من العلوم الدنيوية النافعة في هذا الباب.


والخلاصة : أن سجود الشمس على المعنى الذي ذكرناه غير ممتنع أبدا وبما ذكرنا يزول الإشكال إن شاء الله ولا يخالف الحديث صريح العقل إنما قد يخالف ما اعتاد عليه العقل وألفه وهذا ليس معياراً تقاس بها الممكنات في العقل فضلاً عن الممكنات في الشرع لأن الله على كل شيء قدير ولأن العادة نسبية باعتبار منشأ الناس واختلاف مشاربهم ومجتمعاتهم وعلمهم. والسامع مثلاً لما تخرج به علينا فيزياء الكم من العجائب والأسرار كنظرية ريتشارد فينمان و مبدأ اللاحتمية لهايزنبرج وغيرها من السنن والظواهر في هذا الكون مما يحير عقول العلماء يوقن بأن لله حكمة بالغة يطلع من يشاء عليها ويستأثر بما يشاء عنده، قال تعالى: " ويخلق ما لا تعلمون " ، وقال تعالى: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون "، وقال: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ".


والإنسان الأصل فيه الضعف والجهل، قال تعالى: " وخلق الإنسان ضعيفا " وقال في آية الأحزاب: " إنه كان ظلوما جهولا " ولذلك فابن آدم يسعى على الدوام لدفع ذلك عن نفسه بطلب ضديهما وهما القوة والعلم. قال تعالى في صفة طالوت لما بعثه ملكا: " وزاده بسطة في العلم والجسم " فجمع له بين القوة العلمية والقوة الجسمية.


الردّ على منكري الإعجاز في سورة الروم: 
الحمد لله الذي جعل كتابه مليئاً بالمعجزات، الحمد لله الذي أودع في هذا الكتاب العظيم دلائل وبراهين تؤكد إعجازه الخالد على الرغم من محاولات المشككين لإطفاء نور الله ويأبى الله ذلك، الحمد لله الذي نبّأنا بما سيفعله هؤلاء من محاولات لإخماد نور الحق والإيمان فقال: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة: 31-33].


فهؤلاء الذين جعلوا من رسولهم المسيح عليه السلام إلهاً - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً- لم يكتفوا بذلك، بل يحاولون أن يشككوا المسلمين بعقيدتهم وإيمانهم وكتاب ربهم. ولكن الله الذي أنزل القرآن سوف يسخِّر لهذا الكتاب من يدافع عنه ويُظهر معجزته وعجائبه التي حدثنا عنها الرسول الكريم عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والتسليم.هذا قولهم بأفواههم...


ومن هذه المحاولات ما قرأته على أحد المواقع والذي يسمي نفسه "الردّ على الإسلام"! إنهم لا يدركون خطورة أقوالهم، فهم عندما يردُّون على الإسلام فكأنما يردون على الله قوله-سبحانه وتعالى. ولذلك فلن تنجح خططهم ولن يحصدوا إلا الخيبة والخسران.
يقولون في نقد الإعجاز في قوله تعالى:(غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ)[الروم: 2-3]:
”درج المفسرون على تفسير أدنى بمعنى الأقرب. وأيضا القرآن نفسه يستعمل أدنى بمعنى أقرب. ولكن طلع علينا السيد الزنداني بفتوى أن أدنى هي أخفض. بينما لا نجد مشكلة في القرآن لاستعمال "أخفض" ككلمة.


وحيث أن أدنى بحسبه تعني أخفض فيجب أن تكون المعركة تمت بالقرب من القدس كي تكتمل المعجزة. من غير دليل على أن الآية تشير إلى معركة الفرس والرومان سوى إشارة أخفض الأرض. والتي يجب أن تكون القدس.


الملفت للنظر بأن المسلمين لم يهتموا بدراسة تاريخ تلك الحقبة لتحديد تلك المعركة التي انتصر فيها الفرس على الروم. ولكن صانعوا المعجزات لا يجدون غضاضة في تجاهل التاريخ وعدم البحث عن الحقيقة طالما وافقت هواهم" (1).


هذا ما قرأته على موقعهم، وسوف نستمع الآن إلى قول القرآن العظيم وأن المعجزة ثابتة ولا يمكن لإنسان عاقل أن يتجاهلها أو يشكِّك في مصداقيتها.


أدنى الأرض: 
يحدثنا القرآن في عصر لم يكن باستطاعة أحد أن يقيس أخفض نقطة على سطح اليابسة من الأرض، يحدثنا عن هذه المنطقة بالذات، وأن معركة وقعت فيها وكانت نتيجتها انتصار الفرس على الروم. يقول تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 1-7].


لقد حدَّدت هذه الآيات موقع المعركة في (أدنى الأرض) فما هو معنى هذه العبارة؟ وهل يمكن أن نفهمها بأنها تعني فقط (أقرب الأرض) كما فسَّرها المفسِّرون الأوائل رحمهم الله تعالى أم أن هنالك معاني أخرى؟ وهل هنالك معجزة في هذه الآية الكريمة؟
رحلة من التأملات: لقد تأملت هذا النص الكريم طويلاً واطلعتُ على تفاسيره فوجدتُ أن المفسرين يفسرون قوله تعالى (أدنى الأرض) بأقرب الأرض (2) أي أقرب أرض الروم إلى أرض العرب وهي أغوار البحر الميت أي المنطقة المحيطة بهذا البحر.
ولكن الذي لفتَ انتباهي هو أن عبارة (أدنى الأرض) عامة وليست خاصة بأرض العرب، أي أن القرآن في هذه الآية يطلق صفة (أدنى) على الأرض دون تحديد أرض معينة، ولذلك فقد فهم المفسرون أن الأدنى هو الأقرب بسبب أنهم لم يتصوّروا أن هذه المعركة قد وقعت في أخفض منطقة على وجه اليابسة.


وهذه هي عظمة القرآن أن المعجزة تبقى مختفية قروناً طويلة على الرغم من المحاولات الكبيرة لفهمها إلا أن الله تعالى يُظهرها في الوقت المناسب لتبقى آيات الله مستمرة وقائمة إلى يوم القيامة، ولو أن المفسرين استطاعوا تفسير القرآن كله إذن سوف تتوقف المعجزة! والله تعالى قد تعهّد بأنه سيرينا آياته وينبغي علينا ألا ننكرها، يقول تعالى: (وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) [غافر: 81].


ثم تأملتُ قوله تعالى عن المسجد الأقصى وهو مسجد يقع في مدينة القدس التي لا تبعد سوى عشرين كيلو متراً عن منطقة البحر الميت حيث دارت المعركة، يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الإسراء: 1]. وبدأت التساؤلات: كيف يصِف الله تعالى منطقة البحر الميت بأنها "أقرب الأرض"، ثم يعود ويصِف المسجد الموجود هناك بأنه "المسجد الأقصى" أي الأبعد؟؟


ثم تأملتُ في الخرائط الجغرافية فوجدتُ بأن المنطقة التي وقعت فيها المعركة وهي التي سماها القرآن بـ (أدنى الأرض) تبعد عن مكة أكثر من ألف ومئتي كيلو متراً، فكيف تكون هذه الأرض هي "الأقرب" وهي تقع على هذه المسافة الكبيرة؟ وكيف يكون المسجد الأقصى هو "الأبعد" وهو يقع على نفس المسافة من مكة المكرمة حيث نزلت هذه الآيات؟


ثم تساءلتُ: لو أن الله تعالى يقصد كلمة (أقرب) فلماذا لم يستخدم هذه الكلمة؟ إذن كلمة (أدنى) هي المقصودة وهي الكلمة التي تعطي المعنى الدقيق والمطلوب وهذا ما سنراه يقيناً.


معاني متعددة للكلمة: 
نعلم بأن الله تعالى قد خلق سبع سماوات طباقاً وسمى السماء السفلى أي أخفض سماء سمَّاها (السماء الدنيا)، فقال: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[فصلت: 12]. 


وهنا كلمة (الدنيا) جاءت بمعنى الأقرب من الأرض، ولكن تتضمن معنى آخر وهو الطبقة السفلى بين طبقات السماء السبعة. 


وسُمِّيت بالدنيا لدنوِّها من الأرض(3).


ويقول أيضاً: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[السجدة: 21].


ويفسر المفسرون كلمة (الأدنى) هنا بمصائب الدنيا وأمراضها. وهنا لا يمكن أن تكون (الأدنى) بمعنى الأقرب بل (الأصغر) لأن الله تعالى يقارن في هذه الآية بين نوعين من أنواع العذاب:
1- (الْعَذَابِ الْأَدْنَى)
2- (الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)
إذن في هذه الآية نحن أمام مقياسين هما (الأدنى) و(الأكبر) أي الأصغر والأكبر، كما نعبر عنه في مصطلحاتنا اليوم بالحدّ الأدنى والحد الأعلى، ونقصد الأصغر والأكبر.


يقول تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)[المجادلة: 7].وهنا جاءت كلمة (أدنى) بمعنى أقلّ لأنها قد أُتبعت بكلمة (أكثر).
ونرى أن كلمة أدنى تُستخدم هنا مع الأعداد (4).


كيف نفهم الآية؟
إذن من معاني كلمة (أدنى) لدينا: الأقل والأصغر والأقرب، فما هي المنطقة على سطح الكرة الأرضية والتي تتصف بهذه الصفات الثلاث؟ إنها منطقة البحر الميت، فهي:
1- الأقرب: حيث هي أقرب أرض للروم إلى أرض العرب.
2- الأصغر: فهذه المنطقة مساحتها صغيرة جداً ولا تتجاوز الكيلو مترات المعدودة، وذلك مقارنة بمساحة سطح الأرض والتي تزيد على ملايين الكيلو مترات المربعة.
3- الأقلّ: فهذه المنطقة هي الأقل ارتفاعاً على سطح اليابسة، فهي تنخفض عن سطح البحر بمقدار 400 متراً تقريباً، ولا يوجد في العالم كله أدنى من هذه النقطة إلا ما نجده في أعماق المحيطات.


ولذلك فإن فهمنا لهذه الآية على هذا النحو لا يتعارض مع القرآن وكذلك لا يتعارض مع معطيات العلم، ثم إنهم يعترضون على أن كلمة(أدنى) تفسرها المعاجم اللغوية على أنها (أقرب)، وأن هذه المعاجم لم تورد كلمة (أخفض) ضمن معاني الكلمة.


ولكننا نجد المعاجم تورد معنى الأسفل أو الوادي ضمن معاني هذه الكلمة، فعلى سبيل المثال لدينا في القاموس المحيط في معنى كلمة (دنا): تقول العرب الأدنيان وهما واديان (5). وفي لسان العرب : والأَدْنَى: السَّفِلُ، فالعرب لا تستغرب أن يكون ضمن معاني هذه الكلمة هو الأسفل أو الوادي (6).


ولكننا نجد هؤلاء القوم يأخذون من المعاني ما يتفق مع حججهم الواهية، ويتركون المعاني التي لا تروق لهم.




هل القرآن تابع للمعاجم اللغوية؟
وهنا نود أن نقول: هل نحن ملزمون بأن نفهم القرآن كله على ضوء المعاجم؟ ولو كان هذا صحيحاً إذن لأمكن تفسير القرآن بالكامل ولم يعد هالك حاجة للمفسرين والمجتهدين! ولنفرض أننا لم نعثر على معنى كلمة ما في المعاجم، فهل هذا يعني أن القرآن غير صحيح؟! مثلاً كلمة (الم) و(الر) و(كهيعص) هذه الكلمات غير موجودة في المعاجم، فهل هذا يعني أنها غير صحيحة؟
طبعاً كلام الله تعالى هو الأساس الذي يجب أن ننطلق منه وليس المعاجم اللغوية، وذلك لأن هذه المعاجم تم وضعها بعد نزول القرآن بمئات السنين، وكذلك التفاسير. وتجدر الإشارة إلى أن معظم الانتقادات التي يوجهها هؤلاء لكتاب الله يعتمدون فيها على الفهم القديم للآية وعلى فهم المفسرين لها، وينسون أن هنالك معجزة متجددة للقرآن تتجلى في كل عصر من العصور بما يتناسب مع علوم العصر.


فمثلاً عندما فهم المفسرون من قوله تعالى: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)[الغاشية: 20] أن الأرض ليست كروية بل مسطحة، وذلك حسب معطيات عصرهم، فهل نتابعهم على هذا الفهم ونخالف حقائق العلم؟ أم أننا نتدبر القرآن لنجد أنه لا تناقض بين القرآن والعلم! لأن كلمة (سُطِحَتْ) تعني أن الله قد مهَّدها وجعلها صالحة للحياة، بعكس القمر الذي نجد سطحه مليئاً بالمرتفعات والوديان مما يجعله غير مسطح وغير قابل للحياة. وهذا يعني أن الله تعالى قد جعل للكرة الأرضية سطحاً ممهداً.
فمثلاً إذا قلنا "انظر إلى هذه القبة كيف أن الذي صمَّمها وصنعها جعل لها سطحاً رائعاً" لا يعني هذا الكلام أن القبة أصبحت مستوية، بل جميع الأجسام تملك سطحاً.
إن هذه الدقة العلمية في استخدام الكلمات القرآنية هي ما نجده في قول الحق تبارك وتعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].


إن هذه الآية تقرر أننا إذا ما تدبرنا القرآن سوف لن نعثر فيه على أية تناقضات وهذا دليل كاف على أنه كتاب الله تعالى. إن كتب البشر نجدها تتحدث عن نظرية علمية ثم يأتي عصر يثبتُ فيه خطأ هذه النظرية ورفضها تماماً، بينما نجد القرآن صالحاً لكل زمان ومكان وميسّر الفهم.


إنهم دائماً يعترضون على الإعجاز العلمي للقرآن لأنه يخاطبهم بلغة قوية هي لغة العلم، ولذلك فإنهم يلجؤون إلى الكتب القديمة حيث كان متعذراً وقتها فهم هذه الآيات كما نفهمها في ضوء المعارف الحديثة. ونقول لهم: لماذا تلزموننا بفهم القرآن كما فهمه المفسرون قبل مئات السنين، ولا تلزمون أنفسكم بفهم الكتاب المقدس كما فهمه القسيسون قبل عشرات السنين فقط عندما حددوا عمر الكون بسبعة آلاف سنة ثم ثبُت يقيناً أن عمره بلايين السنوات!! (7).


خاتمة: 
إن ميزة القرآن الكريم أن البدوي في الصحراء كان لا يجد مشكلة في فهمه والتعامل مع كلماته ومعانيه، وعالم الذرة يفهمه أيضاً ولا يجد مشكلة في تدبره مهما تطور العلم، وعالم اللغة يفهم منه أشياء قد لا يفهمها غيره، وعالم الفلك قد يرى فيه حقائق لم يرها أحد من قبله، وهكذا هو كتاب شامل كامل لجميع البشر ولجميع العصور.


ونقول لكل من يظن أن النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه هو من وضع القرآن، أن يعود للكتب السماوية السابقة والصحيحة ليجد فيها الحقيقة الإلهية المتمثلة بدعوة الحق تعالى لهؤلاء ليؤمنوا برسالة الإسلام، يقول عز وجل: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[يونس: 157-158].


الهوامش
(1) http://answering-islam.org/Arabic/Quran/Science/index.html
(2) انظر مثلاً تفسير الطبري أو تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ).
(4) انظر تفسير فتح القدير للإمام الشوكاني في تفسير قوله تعالى:(ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاَّ هو معهم) أي: ولا أقلّ من العدد المذكور: كالواحد والاثنين، ولا أكثر منه كالستة والسبعة إلاّ هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء.
(5) انظر القاموس المحيط في معنى كلمة (دنا): وقوله: "والأَدْنَيانِ: وادِيانِ".
(6)انظر لسان العرب في معنى كلمة (دنا): "ويقال: دَنَا و أَدْنَى و دَنَّى إِذا قَرُبَ، قال: و أَدْنى إِذا عاش عَيْشاً ضَيّقاً بعد سَعَةٍ. و الأَدْنَى: السَّفِلُ".
(7)انظر كتاب موريس بوكاي: دراسة الكتب المقدسة.
ملاحظة
يرجى الاطلاع على بحث مهم حول هذا الموضوع بعنوان: "انتصار الروم البيزنطيين" إعداد الأستاذ فراس نور الحق. المقال متوفر على الرابط:
http://55a.net/firas/arabic/index.php?page=show_det&id=39
تعليق لغوي بقلم الباحث ياسر محمود الأقرع
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ )
اتفق المفسرون على أن كلمة أدنى الواردة في الآية ( 3 ) من سورة ( الروم ) هي بمعنى: أقرب. وذلك انطلاقاً مما حملته معاجم اللغة من معان لهذه الكلمة لا تكاد تخرج عن معنى القرب والدنوّ.
وظل مفسرو القرآن ودارسوه يتحدثون عن الإعجاز الغيبي في هذه الآية، ذلك أن الله أخبرنا بها أن الروم سيهزمون الفرس في بضع سنين ( من ثلاث إلى تسع سنوات ) وهذا ما شهده معاصرو نزول الآية بعد نزولها بتسع سنوات.
ثم طالعنا بحث جديد يؤكد أن أهم مراحل الحرب التي أسفرت عن هزيمة الروم وخسارتهم كانت في أكثر مناطق العالم انخفاضاً، في حوض البحر الميت الذي يقع في منطقة تتقاطع فيها كل من سورية والأردن وفلسطين، ويبلغ مستوى سطح الأرض في هذه المنطقة ( 395 ) متراً تحت سطح البحر، وهذا يعني أنها أدنى منطقة في الأرض.
ويذهب البحث إلى أن كلمة " أدنى " الواردة في قوله تعالى ( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) لها معنى آخر هو ( أخفض ) إضافة إلى المعنى الذي تعارف عليه المفسرون وهو ( أقرب ). وقد أنكر بعض من قرأ البحث هذه النتيجة مؤكداً أن كلمة " أدنى " تعني من الوجهة اللغوية ( أقرب ) ، وليس ثمة رأي آخر يدل على أنها قد تأتي بمعنى ( أخفض ) .
في هذا الموضوع نقول : إن معاجم اللغة _ لمن يتأملها _ بنيت على أساس تراكمي ، إذ أخذ كل معجم مادته ممن سبقه في هذا المضمار، وقلما زاد الأخير على سابقيه شيئاً ، إلى درجة يصعب معها اكتشاف الفروق بين معجم وآخر في تناول معاني الكلمة الواحدة .
وهذا ما نلحظه بالرجوع إلى مادة " دنا " أو " دنو " في المعاجم اللغوية، إذ نجد أنفسنا أمام معان معينة، وكلام معاد ، وشواهد مكررة، تناقلها أصحاب المعاجم، الواحد عن الآخر.
فقد أجمعت المعاجم اللغوية على أن كلمة " دنا " بمعنى اقترب .
أما إن جاءت بالهمز " دنأ " فهي من الدناءة أي : الخسة والوضاعة .
وإذا كان معنى كلمة دنا مقتصراً ـ من الناحية اللغوية ـ على ما ذكرناه ، فماذا نقول إذاً في قوله تعالى في الآية ( 7 ) من سورة المجادلة:
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
وكذلك في قوله تعالى في الآية ( 20 ) من سورة المزمل:
( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .... )
نلاحظ أن كلمة أدنى في الآيتين السابقتين جاءت بمعنى " أقل " ولا يستقيم المعنى إذا نحن أوّلناها على أنها " أقرب " نزولاً عند معطيات المعاجم اللغوية.
في سورة المجادلة جاءت " أدنى " بمعنى " أقل " مرتبطة بدلالة عددية فالأدنى من العدد ثلاثة هو العدد اثنان.
وفي سورة المزمل جاءت كلمة ( أدنى ) بمعنى " أقل " مقترنة بدلالة زمنية ( أدنى من ثلثي الليل )، والأدنى من ذلك: نصفه أو ثلثه أو ربعه أو ....
إذاً جاءت كلمة " أدنى " التي بمعنى أقل ذات دلالة عددية في سورة المجادلة، وذات دلالة زمنية في سورة المزمل، وفي الدلالات العددية أو الزمنية هنالك ما هو أدنى " أقل " وما هو" أكثر" ولكن في الحديث عن الأرض ما هي دلالة كلمة " أدنى " إن كانت بمعنى "أقل" ..!؟
ما هو أدنى الأرض أو " أقلها " جيولوجياً ..!؟
أدنى الأرض معناها أقلها سماكة، وحيث تكون الأرض أقل سماكة تكون أخفض.
وكلمة أدنى بمعنى أخفض، ( والانخفاض ضد العلو) وردت كثيراً في الشعر العربي. كما في قول ابن قيم الجوزية:
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فإن تفعل رجعت بذلة وهوان
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحـ ـرم ذا وذا يا ذلة الحرمانِ
فنحن نلاحظ في البيتين السابقين ( الطباق ) بين كلمتي: الأدنى والأعلى، وورودهما على أنهما متضادتين من حيث المعنى.
ويقول( أبو عدي النمري):
تهامية الأدنى حجازية الذرى كأن عليها من عُمان شقيقها
على الرغم من أن الشاعر في معرض الحديث عن النسب ، القريب منه والبعيد ، إلا أنه يختار للتعبير عن ذلك كلمتين متضادتين معنوياً من وجهة نظره. وهما: الأدنى ـ الذرا
الذرا : أكثر الأماكن علوّاً.
الأدنى: أكثر الأماكن انخافضاً.
لنعد قليلاً ولنتناول عبارة " أدنى الأرض " على أنها " أقرب الأرض " كما اتفق عليها المفسرون . والقرب والبعد مسألة نسبية. ومن ثم فهي أقرب الأرض إلى مَنْ !؟.
قيل في تفسير الآية: إنها أقرب أرض الروم إلى فارس. ونحن نلاحظ أن كلمة الأرض في الآية جاءت معرفة بـ( أل ) العهدية. وأل العهدية هذه تضعنا أمام احتمالين:
إما أن تكون كلمة الأرض ـ هناـ مختصة بمنطقة معينة وموقع محدد. أي تواضع عليها كل من المرسل والمتلقي، فهي معهود ذهني بينهما.
أو تكون عامة. أي الأرض كلها دون تخصيص، وهي معهود ذهني عام.
فأما الاحتمال الأول: فهو ما حملته لنا كتب مفسري القرآن ودارسيه من أن الأرض المذكورة هي أقرب أرض الروم إلى فارس.
ويبقى الاحتمال الثاني وهو ما يجيز لنا أن نعدَّ كلمة الأرض في الآية لفظاً عاماً أريد به الأرض كلها.
وفي هذه الحالة يصبح أدنى الأرض بمعنى أكثرها انخفاضاً أمراً ممكناً، بل لعله يكون بهذا المعنى أقرب إلى الدقة، وإن كان لا ينفي الاحتمال الأول من الوجهة اللغوية.


حول شبهة دلالة كأنما يصعد في السماء
بيان الشبهة باللفظ حرفياً:
"{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}....(الأنعام: 125) حيث يدعي الاعجازيون ان هذه الاية قد اخبرت بالحقيقة العلمية أنه كلما ارتفع الإنسان في السماء انخفض الضغط الجوي وقلّت كمية الأكسجين مما يتسبب في حدوث ضيق في الصدر وصعوبة في التنفس...حيث أن التغير الهائل في ضغط الجو الذي يحدث عند التصاعد السريع في السماء، يسبب للإنسان ضيقاً في الصدر وحرجاً
تعالوا لنرى حقيقة ما تقوله الكلمة محل الادعاء: (يَـصّـَـعّــَدُ فِي السَّمَاءِ) هل فعلا تعني الصعود إلى أعلى؟
الحقيقة هي ان (يَـصّـَـعّــَدُ فِي) معناها ليس ما يحاول أن يلصقها بها العالم الكبير..... يصعد بتشديد الصاد -- ملحقة ب:"في كذا" -- تعني محاولة -على مشقة- في عمل شيء صعب أو مستحيل...و لك أن تطالع ما تقوله المعاجم في ذلك:
(تَصَعَّدَ) يتصعَّد، ويَصَّعَّد: تَصاعدَ. و- في الشيءِ: مضى فيه على مشقة. وفي التنـزيل العزيز:كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ. و- النَّفَسُ: صَعُبَ مَخْرَجُهُ. و- الشيءُ الرَّجلَ: جَهَده وبلغ منه فالمراد من الاية هنا هو تشبيه ضيق صدر الكافر نتيجة كفره بضيق الشخص الذي يحاول الصعود في السماء فلا يستطيع لأستحالة هذا (!) [...]
الحقيقة لا اعرف فعلا...هل وصلت جرأة الكذب بالاعجازيين الى درجة التغيير في معنى لغوي لكلمة يمكن لأي شخص التأكد منها من المصادر المتاحة ؟؟؟ كما رأينا فمعنى اللفظ (يَـصّـَـعّــَدُ فِي) كذا، لا علاقة له إطلاقاً بالصعود وإنما المحاولة على مشقة في عمل شيء مستحيل".
الجواب: لا يُعَد فهم عالم ما في زمن ما، حُجة على فهم باقي المسلمين لمعاني القرآن الكريم. بل لا يشترط لتحقق الإعجاز القرآني، أن يقول به كل علماء الإسلام.
فالأفهام والنظرات إلى الأمور تتغير بتغير الثقافة وآفاق النظر إلى الآيات تختلف، فهناك من ينظر إلى الآيات من الزاوية الأخلاقية فيخرج بفهم ما، وهناك من ينظر إليها من حيث الإعجاز البياني، وهنالك من ينظر إليها بحسب ما يستنبط منها فقهياً.. وكل ذلك صواب، مأجور عليه، مأمور به.. لا يعيب من سلك إحداها منهم على الآخرين، كما لا يعيبون عليه.
والحَكَمُ هو النص القرآني المعجز، لا كلام العلماء.
أما عن الصعود في كتب اللغة:
ـ " صعد السطح، وصعد إلى السطح، وصعد في السلم وفي السماء، وتصَّعَّد وتصاعد، وصَّعَّد في الجبل، وطال في الأرض تصويبي وتصعيدي. وأصَّعَّدَ في الأرض: ذهب مستقبل أرض أرفع من الأخرى ".[1]
ـ " وصعَّدَ في الجبل وعليه وعلى الدرجة: رقي ".[2]
ـ " صَعَّد في الجَبَلِ وصَعَّد عليه تَصْعيداً، كاصَّعَّدَ اصِّعَّاداً، بالتشديد فيهما.. أَصْعَد في الجَبَل، وصَعَّد في الأَرض: رَقِيَ مُشْرِفاً ".[3]
ـ " صعد: إذا ارتقى، واصَّعَّد يَصَّعَّدُ إصّعّاداً فهو مصَّعَّد: إذا صار مستقبل حدور أو نهر أو وادٍ أو أرض أرفع من الأخرى. وصعّد في الوادي إذا انحدر.. والاصِّعَّاد عندي مثل الصُعُود؛ قال الله تعالى: " كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ". [الأنعام: 125] يقال: صَعَدَ واصَّعَّدَ واصَّاعَدَ بمعنى واحد ".[4]
والتفسير العلمي لسبب ذلك هو: زيادة الضغط الجوي، وقلة الأكسجين.. فالمعنيان يكملان بعضهما.
ومن هنا يتبين أن العرب استعاروا معنى الصعود ليدل على المشقة (لازمُ الصعودِ). وهذا من الأساليب المعهودة في العربية وهي استعارة لازم الصفة للدلالة على معانٍ تشبهها.[5]
فالمشقة لازمة لصعود الجبال، فلا تنافي بين الأمرين، فأحدهما مسبَّب عن الآخر، والثاني أصل له.
فالأصل: الصعود، ولازمه: المشقة.
جاء في معجم مقاييس اللغة: " الصاد والعين والدال أصلٌ صحيحٌ، يدلُّ على ارتفاعٍ ومشقّة. من ذلك الصَّعُود ـ خلاف الحَدُور ـ ويقال صَعِدَ يَصْعَد.
الإِصعاد: مقابلة الحَدُور من مكانٍ أرفع. والصَّعود: العقَبة الكَؤود، والمشقّة من الأمر ".[6]
شرح الإعجاز العلمي في الآية الكريمة:[7]
الآية الكريمة تعبِّر عن التغيير الكبير في الضغط الجوي المصاحب للصعود السريع إلى السماء، مما يؤثر في الإنسان وخاصة دورته الدموية وخاصة أهم جزء منها (القلب) الموجود في الصدر..
ووجه آخر للإعجاز العلمي في الآية الكريمة وهو لفظ يصَّعَّد (وأصله: يتصَعَّد) وهو من التفعُّل، أي كلما زاد الفعل، زاد أثره.. فكلما زاد الصعود، زاد الضيق (الحرج).
ثالثاً: دلالة : " أدنى الأرض " على كون البحر الميت، أخفض منطقة في العالم:
بيان الشبهة حرفياً:
" ادعاء اخر في منتهى السذاجة...وهو الادعاء بأن لفظ "ادنى الأرض" في سورة الروم يعني "اخفض منطقة في الأرض"...
رغم عدم الحاجة للتأكد من المعنى اللغوي لكلمة "أدنى" حيث ان اي طفل يعرف ان ادنى يعني أقرب وهي عكس أبعد...ذهب كالعادة للتأكد من المعاني في المعاجم المختلفة
القاموس المحيط: (و دَنا): دُنُوًّا ودَناوَةً قَرُبَ (كأدنَى ودَنَّاه تَدْنِيَةً وأدْناهُ) قَرَّبَه
لسان العرب: دَنا من الشيء دنُوّاً ودَناوَةً قَرُبَ... وبينهما دناوة أَي قَرابة. والدَّناوةُ القَرابة والقُربى. ويقال: ما تَزْدادُ منِّا إلا قُرْباً ودَناوةً ; فرق بين مصدرِ دنا ومصدر دَنُؤَ، فجعل مصدر دَنا دَناوةً ومصدر دَنُؤَ دَناءَةً [8]
فكل المعاجم اتفقت على ان المعنى الوحيد لأدنى هو "أقرب"..
و لم أسمع في حياتي عن أن ادنى تعني اخفض[9]..أو ارى [الصواب: أرَ] مرجعا لغويا واحدا يقر بذلك".
الجواب: ليس كما قال؛ فأصل الدنو: الانخفاض.. ولهذا نقول الحياة الدنيا: أي أنها دون الآخرة..
جاء في معجم مقاييس اللغة: " الدال والنون أصلٌ واحد يدلّ على تطامُنٍ وانخفاض. فالأدَنُّ: الرجل المنحنِي الظَّهر. يقال منه قد دَنِنْتَ دَنَناً. ويقال بيتٌ أدنّ، أي متطامِنٌ. وفرسٌ أدَنّ، أي قصير اليدين. وإذا كان كذلك كان منْسجُهُ منْخفضاً ومن ذلك الدَّنْدَنَة، وهو أنْ تُسمَع من الرَّجل نَغْيَةٌ لا تُفْهَم، وذلك لأنّه يخفِض صوتَه بما يقوله ويُخفيه. ومنه الحديث: "فأمَّا دَنْدَنَتُكَ ودندنةُ مُعاذٍ فلا نُحْسِنُهُمَا " ".[10]
والمشتق من (الدنو) كله يعود على القرب والانخفاض والصغر..
جاء في المفردات: " الدنو: القرب بالذات، أو بالحكم، ويستعمل في المكان والزمان والمنزلة. قال تعالى: " وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ" [الأنعام: 99]، وقال تعالى: " ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى" [النجم: 8]، هذا بالحكم. ويعبر بالأدنى تارة عن الأصغر، فيقابل بالأكبر نحو: " وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ " [المجادلة: 7]. وقرأ الحسن (ولا أكبر) وهي قراءة شاذة، وهي محل الاستشهاد، وتارة عن الأرذل فيقابل بالخير، نحو: " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ " [البقرة:61]، وعن الأول فيقابل بالآخر، نحو: " خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ " [الحج: 11]، وقوله: " وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ " [النحل: 122]، وتارة عن الأقرب، فيقابل بالأقصى نحو: " إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى " [الأنفال: 42].. وخص الدنيء بالحقير القدر، ويقابل به السيئ؛ يقال: دنيء بيِّن الدناءة ".[11]كما يعبَّر عن الرجل الدنيء: بالسافل، منحط القدر. وقنوان النخل: الدانية القريبة، لأنها المنخفضة.
ومدح عليَّ بن أبي طالب t رجلٌ فأفرط فقال عليّ tـ وكان يتّهمه ـ: " أنا دُونَ ما تقول، وفوقَ ما في نفسك ".[12]
والمقصود بالإعجاز العلمي في الآية الكريمة: وقوع بعض مراحل القتال الحاسمة بين الفرس والروم ـ الذي استمر عدة سنوات، في عدة أماكن ـ وتأثير نتيجته في تلك البقعة من الأرض، التي تعد أخفض بقعة في العالم.[13]
فإن فسرت الأدنى بالأخفض، فهي أخفض مكان على الأرض.
وإن فسرتها بالأقرب، فهي أقرب مكان على سطح الأرض إلى نواتها ومركزها (أصلها).
رابعاً: هل الجبال تمنع " مَيَدان الأرض " كما يقول القرآن، أم سبب الزلازل كما يقول العلم ؟
نص الشبهة حرفياً:
" خصص د. بوكاى صفحات 206 - 208 من كتابه [القرآن الكريم والتوارة والإنجيل والعلم]ليتحدث عن (تضاريس الأرض) وناقش الآيات القرآنية التى تحدثت عن الجبال، وقال: (يصف علماء الجيولوجيا الحديثون تعرجات الأرض بأنها تثبت الأجزاء البارزة التى تتراوح أبعادها من الكيلومتر إلى عشرة كيلومترات، ومن ظاهرة التعرج هذه ينتج ثبات القشرة الأرضية). ويقتبس من سورة الأنبياء 21: 31 (وهى من العهد المكى الوسيط) (وجعلنا فى الأرض رواسى أن تميد بهم) ومن سورة النحل16: 15 (من العهد المكى المتأخر) (وألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم) ومن سورة لقمان 31: 10 (من العهد المكى المتأخر) (وألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم) ومن سورة النبأ 78: 6 و7 (من العهد المكى المبكر) (ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا) ويقول:والأوتاد المشار إليها هنا هى تلك التى تستخدم فى تثبيت الخيام فى الأرض) (ص 208). ويقتبس من سورة الغاشية 88: 19 و20(.. وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت).وتقول هذه الآيات إن الله أرسى الجبال فى الأرض كأوتاد خيمة ليحفظها من أن تميد أى تميل وتضطرب).
ويعلق د. دافيد يونج على ما اقتبسناه من د.بوكاى فى مطلع كلامنا هنا بالقول: (صحيح أن سلاسل جبال كثيرة تكونت من صخور متعرجة، ولكن ليس صحيحا أن هذه التعرجات تثبت الأجزاء البارزة. بل إن وجود هذه التعرجات دليل على عدم ثبات أديم الأرض).وهذا يعنى أن الجبال لا تحفظ الأرض من أن تميل، بل إنها تجعل سطح الأرض يهتز! وتقترح النظريات الجيولوجية الحديثة أن أديم الأرض الصلد مكون من أجزاء أو طبقات تتحرك مع بعضها ببطء، بسرعة تعادل سرعة نمو الأظافر. وتنفصل الطبقات أحيانا. ويعتقد معظم الجيولوجيين أن هذا يوضح انفصال أمريكا الشمالية والجنوبية عن قارتى أوربا وأفريقيا. وفى بعض أنحاء الكرة الأرضية تتصادم هذه الطبقات وتنبعج وتتغضن وتنزلق فوق بعضها. وتجد هذا فى الشرق الأوسط حيث كان تحرك شبه الجزيرة العربية نحو إيران سببا فى ظهور سلسلة جبال زاجروس، وجبال أطلس فى المغرب، وجبال الألب التى تكونت بسبب تحرك الطبقات الأرضية ".
الجواب: قوله هذا ناشئ عن عدم فهم وجه الإعجاز العلمي في وظيفة الجبال كما بينها القرآن الكريم.
وقد ذكر الدكتور زغلول النجار أن إرساء (تثبيت) الجبال للأرض ما هو إلا إرساء لأمرين:
" ‏أ‏.‏ تثبيت الجبال لألواح الغلاف الصخري للأرض:
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، تمت بلورة مفهوم تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض‏,‏ فقد اتضح أن هذا الغلاف ممزق بشبكة هائلة من الصدوع، تمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات، لتحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة، بعمق يتراوح بين‏65‏ و‏150‏ كيلومتراً.‏ فتقسمه إلى عدد من الألواح الصخرية، التي تطفو فوق نطاق الضعف الأرضي، وتتحرك في هذا النطاق من نطق الأرض التيارات الحرارية، على هيئة دوامات عاتية من تيارات الحمل، تدفع بألواح الغلاف الصخري للأرض؛ لتباعد بينها عند أحد أطرافها‏,‏ وتصدمها ببعض عند حوافها المقابلة لحواف التباعد‏,‏ وتجعلها تنزلق عبر بعضها عند الحافتين الأخريين‏.‏
ويتعين على تسارع حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض، دوران الأرض حول محورها أمام الشمس‏,‏ كما يتعين على ذلك، اندفاع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان عبر الصدوع الفاصلة بين حدود الألواح المتباعدة عن بعضها‏,‏ فيتكون بذلك باستمرار أحزمة متوازية من الصخور البركانية التي تتوزع بانتظام حول مستويات الصدوع الفاصلة بين الألواح المتباعدة، في ظاهرة تعرف باسم: ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات‏,. وتتكون الصخور الأحدث عمراً حول مستويات التصدع المتباعدة‏,‏ باستمرار وتدفع الصخور الأقدم عمراً في اتجاه اللوح المقابل عند خط الاصطدام. وهنا يهبط قاع المحيط تحت القارة، إذا كان اللوح المقابل يحمل قارة بنفس معدل اتساع قاع المحيط، في كل جهة من جهتي الاتساع، حول مستوى تصدع وسط المحيط، الذي تتكون حوله سلاسل من الجروف البركانية، تمتد فوق قاع المحيط لعشرات الآلاف من الكيلومترات، وتعرف باسم حواف أواسط المحيطات‏.‏
وينتج عن هبوط قاع المحيط تحت اللوح الصخري الحامل للقارة، تكوُّن أعمق أجزاء هذا المحيط على هيئة جُبٍّ عميق، يعرف باسم: الجب البحري‏.‏ ونظراً لعمقه، يتجمع في هذا الجب كم هائل من الرسوبيات البحرية، التي تتضاغط وتتلاحم مكونة تتابعات سميكة جداً من الصخور الرسوبية‏,‏ ويتبادل مع هذه الصخور الرسوبية ـ ويتداخل فيها ـ كم هائل من الصخور النارية، التي تعمل على تحول أجزاء منها، إلى صخور متحولة‏.‏ وتنتج الصخور البركانية عن الانصهار الجزئي لقاع المحيط المندفع، هابطاً تحت القارة‏,. وتنتج الصخور المتداخلة جزئيا عن الصهارة الناتجة عن هذا الهبوط‏,‏ وعن الإزاحة من نطاق الضعف الأرضي بدخول اللوح الهابط فيه‏.‏
هذا الخليط من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة، يكشط باستمرار من فوق قاع المحيط بحركته المستمرة تحت اللوح الصخري الحامل للقارة‏,‏ فيطوى ويتكسر‏,. ويضاف إلى حافة القارة مكوناً سلسلة أو عددا من السلاسل الجبلية ذات الجذور العميقة، التي تربط كتلة القارة بقاع المحيط فتهدئ من حركة اللوحين، وتعين على استقرار اللوح الصخري الحامل للقارة، استقراراً ـ ولو جزئياً ـ يسمح بإعمارها‏.‏
وتتوقف حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض بالكامل، عندما تصل دورة بناء الجبال إلى نهايتها حين تتحرك قارتان مفصولتان بمحيط كبير، في اتجاه بعضهما. حتي يستهلك قاع المحيط كاملاً بدخوله تحت إحدى القارتين حتى تصطدما‏.‏ فيتكون بذلك أعلى السلاسل الجبلية ارتفاعاً، كما حدث عند ارتطام اللوح القاري الحامل للهند، باللوح الحامل لقارتي آسيا وأوروبا، وتكوَّنت سلسلة جبال الهيمالايا‏.‏
من هنا اتضح دور الجبال في إرساء ألواح الغلاف الصخري للأرض وتثبيتها‏,‏ ولولا ذلك ما استقامت الحياة على سطح الأرض أبدا‏ًً؛ لأن حركة هذه الألواح كانت في بدء خلق الأرض على درجة من السرعة والعنف لا تسمح لتربة أن تتجمع‏,‏ ولا لنبتة أن تنبت‏,‏ ولا لحيوان أو إنسان أن يعيش‏.‏ خاصة وأن سرعة دوران الأرض حول محورها، كانت في القديم أعلى من معدلاتها الحالية بكثير‏,‏

ليست هناك تعليقات: